أكَّد فضيلةُ الأستاذ الدكتور نظير عيَّاد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أنَّ الحديث عن حقوق الجار والمواطنة يجب أن ينطلق من نظرة شاملة تتجاوز الإطار الضيق، مشيرًا إلى أنَّ مفهوم المواطنة يحمل دَلالات واسعة تتجسَّد بوضوح في النموذج الذي أرساه النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع المدينة، حيث وضع إطارًا جامعًا يحقِّق الخير للإنسانية بأَسْرها، مشيرًا إلى أن الإسلام كفل الحقوق المشتركة بين البشر بغضِّ النظر عن اختلاف الدين أو المعتقد.
وأضاف فضيلته، خلال لقائه الرمضاني اليومي مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج “اسأل المفتي” على فضائية صدى البلد، أنَّ المرحلة التي نعيشها اليوم، في ظل الحروب والصراعات المدمرة التي لم تراعِ للإنسانية كرامة ولا للدين حرمة، تحتِّم علينا العودة إلى المبادئ التي أكَّدها الإسلام بشأن الأخوة الإنسانية، مشيرًا إلى أنَّ الله عز وجل أشار إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
وأوضح فضيلته أن مبدأ المواطنة يستند إلى مجموعة من القيم والمبادئ التي تشكِّل مشتركات إنسانية لا تتفاوت بتفاوت الأديان أو المعتقدات، بل تتأسس على حقوق أصيلة كُفلت للجميع، مثل الاحترام المتبادل، والاعتراف بالآخر، وصون الحقوق. وضرَب مثالًا بوثيقة المدينة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم عقب هجرته إلى المدينة المنورة، حيث لم يقتصر فيها على تنظيم العلاقة بين المسلمين فحسب، بل امتدت لتشمل جميع سكان المدينة، محددة الحقوق والواجبات التي تضمن التعايش السلمي بين الجميع، وهو ما يؤكد أن الإسلام كان سبَّاقًا في إرساء مفاهيم الحقوق والحريات قبل أن تتبناها المواثيق الحديثة.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن هذه المبادئ تجلَّت بوضوح في خطبة الوداع، حيث خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعًا بقوله: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد». موضحًا أن اختيار النبي لهذا الخطاب الشامل الذي يخاطب البشرية جمعاء، وليس المسلمين وحدهم، يدلُّ على أنَّ القيم التي أتى بها الإسلام لا تخص أتباعه فقط، بل تمتد لتشمل كل بني الإنسان.
وفي سياق حديثه عن مقاصد الشريعة الإسلامية، أشار فضيلته إلى أن الشريعة حرصت على صيانة الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، باعتبارها ركائز أساسية لحفظ المجتمع وبقائه، مؤكدًا أن الصحابة الكرام أدركوا أهميةَ الحفاظ على مبدأ الدولة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فسارعوا إلى اختيار مَن يقوم على أمر الناس حتى تستمر رعاية المصالح العامة، وهو ما يظهر بوضوح في سلوكهم السياسي الذي أكد أهمية وجود قيادة مسؤولة تحفظ الأمن والاستقرار وتحمي الحقوق.
وتابع فضيلته قائلًا: “إن الإسلام جعل معيار التفاضل بين الناس هو التقوى والعمل الصالح، وليس العِرْق أو اللون أو النسب”، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى». مؤكدًا أن هذه القاعدة تعزز مفهوم الوحدة الإنسانية، وتدعو إلى تحقيق التعارف والتعاون بين الشعوب، كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وشدد فضيلة المفتي على أن العالم اليوم يواجه تحديات كبيرة، حيث تهيمن المصالح الضيقة على المبادئ، وتنتشر الحروب التي تمزق الأوطان، مما يستوجب تحركًا عالميًّا لإعادة التوازن وإعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية. وأشار إلى الجهود التي يبذلها الأزهر الشريف بقيادة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بالتعاون مع الفاتيكان ممثلًا في قداسة البابا فرنسيس، من خلال وثيقة الأخوة الإنسانية التي تسعى إلى تعزيز قيم الحوار والتعايش، ورفض العنف والتطرف، والعمل على نشر السلام العادل بين الأمم.
وأكد فضيلته أن هذه المبادرات المشتركة بين المؤسسات الدينية الكبرى تمثل خطوة مهمة نحو إعادة العالم إلى رشده، والتصدي للأفكار المغلوطة التي تسعى إلى تشويه صورة الأديان، مشيرًا إلى أن الدين يجب أن يكون حاضرًا بقوة في معالجة القضايا المعاصرة، خاصة في ظل ما نشهده اليوم من تغليب المصالح على المبادئ، وهيمنة القوة على الضعفاء، مما يستدعي تضافر الجهود لإرساء قيم العدل والمساواة والسلام.
وفي ختام الحلقة أجاب فضيلة المفتي عن أسئلة المشاهدين حيث أكد فضيلته أنه لا حرج في ذكر الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل إقامة الصلاة أو بين ركعات التراويح، إذ إن الأصل في الأمور الإباحة، بل إن الذكر والصلاة على النبي تعدُّ من الأمور التي تهيئ النفس للطاعة والعبادة.
كما أوضح فضيلة المفتي أن اقتراف الذنوب في رمضان لا يؤدي إلى بطلان الصوم إلا إذا كانت من المفطرات المعروفة كالأكل والشرب عمدًا والجماع، مشيرًا إلى أن هناك أعمالًا قد تؤدي إلى نقصان الأجر مثل الغيبة والنميمة وتتبع عورات الناس، ومشاهدة الأمور المحرمة، وهي مما يجب على المسلم اجتنابه ليحقق الصيام في أرقى درجاته.
وعن حكم بناء مسجد من أموال النذور المخصصة للفقراء، بيَّن فضيلته أنه لا يجوز تغيير وجهة أموال النذور المخصصة للفقراء إلى بناء مسجد، إلا إذا نوى المتبرع ذلك من البداية وحدد هذا النذر لهذا الغرض، أما إذا كان المال مخصصًا للفقراء فلا يجوز تحويله.
وفيما يتعلَّق بحكم شراء السلع التي يظن أنها مسروقة، أشار فضيلة المفتي إلى أن الأصل في المعاملات هو الإباحة والثقة واليقين، ولا حرج في الشراء ما لم تتوفر أدلة أو براهين على أن السلعة مسروقة، أما إذا غلب على ظن المشتري أنها مسروقة فينبغي عليه اجتنابها.
وحول عدم التركيز في الصلاة، أكد فضيلته أنه من الأمور التي قد تحدث للإنسان، ويمكن معالجتها بتغيير المكان، أو تجديد الوضوء، أو متابعة الإمام في القراءة، إضافة إلى استشعار أن الصلاة وسيلة للمعراج الروحي.
وفيما يخص إجبار الأطفال على الصلاة، أوضح المفتي أنه ينبغي الجمع بين الترغيب والترهيب، وذلك بالتودد إليهم وتعويدهم على الصلاة من خلال تقديم المكافآت والتشجيع، مع الاستعانة بالدعاء لهم بالصلاح.
أما عن قول: “اللهم اجعل مثواه الجنة” في الدعاء للميت، فأكد فضيلته أنه لا حرج فيه؛ لأن المقصود هو الدعاء للميت بأن يكون مصيره إلى الجنة، وهو طلب خير لا غبار عليه.